في أثناء زيارتي الأخيرة للمنطقة الحدودية بشبه الجزيرة الكورية، وحتى في الزيارات المماثلة التي سبقتها، يقوم المرافقون بتحذير الضيوف الزائرين باتخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر؛ لأنهم –باختصار- يمرون بمنطقة هي الأخطر في العالم على الإطلاق، باعتبارها مليئة بكل صنوف الألغام الأرضية، ومحصنة بأسوار كهربائية وأسلاك شائكة، بالإضافة إلى مليوني جندي، وآلاف الجنود من حرس الحدود من الشطرين الكوريين، الشمالي والجنوبي، أيديهم فوق الزناد على مدار الساعة.
هذه الخواطر المرعبة لم تفارق خيالي، وأنا أكتب عن إحياء الذكرى الواحدة والسبعين، التي صادفت يوم أمس السبت 27 يوليو، لتوقيع هدنة -وليس معاهدة سلام- في نهاية الحرب الكورية (1950-1953)، وقد أحيت سول وبيونج يانج هذه الذكرى التاريخية بطريقتين مختلفتين، تنذران بأن اتفاق الهدنة في مهب الألغام.
كوريا الشمالية تحتفل بتاريخ توقيع الهدنة باعتباره يوم النصر، مدعية أنها انتصرت في حرب التحرير، ضد العدوان بقيادة واشنطن، وفي احتفال العام الماضي مثلا (الذكرى السبعون)، نظمت بيونج يانج عرضًا عسكريًا، حضره وزير الدفاع الروسي السابق سيرجي شويجو، وكذلك، حضره عضو المكتب السياسي للحزب الصيني لي هونج شونج، في خطوة بدت واضحة جدًا لإظهار حجم التضامن –الذي كان ولا يزال- بين كوريا الشمالية وروسيا والصين، في أثناء الحرب الكورية.
في كوريا الجنوبية، اقتصرت مراسم إحياء ذكرى توقيع الهدنة على حضور نحو ألف شخص، من بينهم 16 فردًا من قدامى المحاربين الأمميين، علمًا بأن 22 دولة كانت قد أرسلت حوالي 1.98 مليون فرد إلى شبه الجزيرة الكورية، للقتال إلى جانب القوات الجنوبية بموجب تفويض من الأمم المتحدة، توفي منهم نحو 40 ألفًا، وفقد 3950 آخرين، وكما هو الحال في بيونج يانج، لا يتوقف الحديث العلني بكوريا الجنوبية عن تعزيز التعاون الأمني الثلاثي، بين سول وطوكيو وواشنطن.
أي مراقب للتطورات الجارية في شبه الجزيرة الكورية، يمكنه -بسهولة- أن يرصد حالتي الغليان والاحتقان، العسكرية، القصوى، التي تمر بها ليس -فقط- المنطقة الحدودية بين الكوريتين، ولكن-أيضًا- إقليم شمال شرق أسيا، بل، والعالم بأكمله.
كوريا الشمالية استبقت موعد حلول ذكرى توقيع الهدنة بتصريف المياه من سد هوانج جانج، في أثناء موسم الأمطار الغزيرة، بدون إخطار مسبق للجنوب -على ما يبدو- بالقرب من الحدود بين الكوريتين، وهو ما من شأنه تهديد أمن وسلامة مواطني الجنوب، بالمنطقة الحدودية من ناحية، لتسببه في تزايد احتمالات انجراف عشرات آلاف ألغام أرضية عشوائية، تشبه أوراق الشجر، أو الأخرى الموضوعة بصناديق خشبية، وقد زرعتها بيونج يانج، بالمنطقة الحدودية في الأشهر القليلة الماضية، بغرض منع الكوريين الشماليين من عبور الحدود لدخول الجنوب.
وفقا لتقديرات كورية جنوبية رسمية أخيرة، بلغ عدد المنشقين الشماليين الذين وصلوا إلى الجنوب 105 هاربين، في النصف الأول من العام الحالي، مقابل 99 منشقًا في الفترة المماثلة من العام الماضي، ليصبح العدد الإجمالي للمنشقين 34 ألفًا، وسط –ما تصفه سول- بمعاناة الشماليين من القمع، والنقص المزمن في الغذاء.
أيضًا، استبقت كوريا الشمالية ذكرى توقيع الهدنة، بإغراق سماء الشطر الجنوبي بآلاف من البالونات المحملة بالقمامة، في 10 مناسبات منذ يوم 28 مايو الماضي وحتى تاريخ كتابة هذه السطور، وسقط بعض محتوياتها بالمجمع الرئاسي بسول!
في السياق نفسه ووفقًا لتحليلات جنوبية، بدت بيونج يانج وكأنها تفضل تغيير سياسات واشنطن تجاهها، جاء ذلك ضمن تعقيب –حذر- أبدته كوريا الشمالية، ردًا على رغبة ترامب في إعادة علاقة الصداقة مع الزعيم كيم جونج أون، وأكد الشمال أن مستقبل العلاقات -بين بيونج يانج وواشنطن- يعتمد على التصرفات الأمريكية.
رد كوريا الجنوبية على ما أسمته بـ استفزازات الشطر الشمالي لم يتوقف عند حد استئناف إرسال المنشورات والبث الدعائي المناهض لكوريا الشمالية عبر منطقة الهدنة، بل استضافت حاملة الطائرات الأمريكية التي تعمل بالطاقة النووية ثيودور روزفلت، وأعلنت عن مناورات بأحدث المقاتلات، ونشر 31 مقاتلة أمريكية من طراز إف 16 بشكل مؤقت لمدة عام، بقاعدة أوسان الجنوبية، كما استضافت أول تدريبات بحرية ثلاثية مشتركية بين كوريا الجنوبية واليابان والولايات المتحدة.
وزير الدفاع الكوري الجنوبي، شين وون-سيك، صرح بأن التعاون الأمني الثلاثي بين سول وطوكيو وواشنطن أصبح أكثر أهمية الآن، مؤكدًا أن عواصم الدول الثلاث في المرحلة النهائية لترتيب وثيقة مشتركة تجعل لهذه الجهود صبغة مؤسسية. ومن هنا، تأتي أهمية الاجتماع الثلاثي لوزراء دفاع كوريا الجنوبية واليابان والولايات المتحدة بطوكيو. أما وزيرة الخارجية اليابانية، كاميكاوا يوكيو، فقد صرحت بضرورة تعزيز الردع الأمريكي، في ظل تزايد قسوة البيئة الأمنية.
ما وصفته الوزيرة اليابانية كاميكاوا بـ “تزايد قسوة البيئة الأمنية”، وحديثها المباشر عن أهمية تعزيز الردع الأمريكي الموسع- على خلفية التهديد النووي الكوري الشمالي، إضافة إلى مخاوف تجاه روسيا والصين- هل يفسح المجال، ويدفع بشدة، لتوقيع أول وثيقة مشتركة من نوعها- بين طوكيو وواشنطن- تتضمن التزام الولايات المتحدة بحماية اليابان- بكل الوسائل- بما فيها الأسلحة النووية؟!
kgaballa@ahram.org.eg