كمال جاب الله يكتب: كوبا تتجدد ولن تحيد عن الثوابت

186

هذا ما رأيته، وتأكدت -بنفسي- من الالتزام به، في كل الأوساط والمستويات، الحزبية والرسمية والأهلية، الكوبية، بعد زيارة مهمة للعاصمة، هافانا، ولمدينة سانتا كلارا، استغرقت أسبوعًا، وتحديدًا، في الفترة من 22 إلى 29 يناير الماضي.

الهدف من زيارة كوبا كان لحضور فعاليات مؤتمر دولي -على درجة كبيرة من الأهمية- شارك فيه أكاديميون ومؤرخون ومثقفون ونقابيون وغيرهم، جاءوا من 80 دولة، وحمل عنوانًا رومانسيًا: “من أجل توازن العالم.. حوار الحضارات”.

برغم أهمية المؤتمر والموضوعات المتنوعة التي جرى مناقشتها على مدار خمسة أيام، إلا أني لم ألتزم –حرفيا- بحضور كل الجلسات والفعاليات، وكان همي –أساسًا- هو البحث عن إجابة لسؤال محوري يدور في أذهان كثيرين: كوبا إلى أين؟

المفارقة أن السؤال، نفسه، كان عنوانًا لعدد من التحقيقات الخارجية، نشرتها لي صحيفة “الأهرام” الغراء، عقب زيارتي الأولى لكوبا، في شهر يوليو عام 2006، ووقتها، تزامنت الزيارة عقب حدوث عارض صحي لقائد الثورة، فيدل كاسترو.

على مدار نحو 17 عامًا، جرت مياه كثيرة في النهر- على الصعيدين الدولي عمومًا والمحلي في كوبا نفسها – حيث تقاعد قائد الثورة الكوبية، بعد أن أمضى نحو نصف قرن، في سدة الحكم، خلفه شقيقه، راؤول، وصولا للرئيس الحالي، ميجيل دياز كانيل.

طائرة الركاب العملاقة التي أقلتني من مدريد إلى هافانا، تصادف أن لونها كان برتقاليًا، ORANG، هذا اللون -الفريد- فسره نائب رئيس المعهد الكوبي للصداقة مع الشعوب، فيكتور جاواتاه، الذي كان في استقبالي بالمطار، بأنه يحمل رسالة!

من تلك اللحظة، بدأت مهمة البحث عن إجابة للسؤال: كوبا إلى أين؟ استمر طرحه على من صادفته من الكوبيين والأجانب، وعلى المسئولين في الدولة، الذين شرفت بلقائهم، لتأتي إجابة شبه موحدة، مضمونها: “كوبا تتجدد ولن تحيد عن ثوابتها”.

اللقاء -الذي شرفت به- مع الرئيس الكوبي دياز كانيل لم يكن سهلا، بالرغم من أنها كانت رغبة أبديتها، في ضوء حضور أكثر من ألف مشارك بالمؤتمر الدولي، وكانت لديهم الرغبة ذاتها، غير أنها تحققت، بحكم ما يبديه الرجل من محبة لمصر.

ما أردت أن أسمعه من الرئيس ميجيل دياز كانيل، في رده على السؤال المحوري، الذي ظل يراودني طوال المهمة بكوبا، جاء –عرضًا- في فقرة، أقتطعها من خطابه، واستمعت إليها، وهو يلقيها، أمام الجلسة الختامية للمؤتمر الدولي، ونصها:

“علينا أن نتحد ضد الإمبريالية، نحن مجبرون على البحث عن عالم متوازن، يسوده السلام، ويحترم التعددية، عالم ديمقراطي حقًا، عادل اجتماعيًا، يؤكد سيادة الشعوب، لابد من تفضيل الحوار على استخدام القوة”.

الرئيس الكوبي، دياز كانيل، لم يكتف بتوجيه خطاب أمام الجلسة الختامية للمؤتمر الدولي بقصر المؤتمرات في هافانا، بل رأيته يحضر- بنفسه مع عدد كبير من أركان الدولة- إحدى الجلسات، وقيل إنه يكرر ما كان يفعله فيدل كاسترو في زمانه.

قبيل سقوط الاتحاد السوفيتي السابق، ومعه حلف وارسو، وكانت كوبا عضوًا فيما كان يسمى بمجلس التعاضد الاقتصادي للدول الاشتراكية، تركزت الأنظار، وقتها، على هافانا، وبدأ أعداؤها يسجلون العد التنازلي لنهاية حقبة ثورة فيدل كاسترو.

في لهجة صارمة، وردت بخطابه يوم 26 يوليو عام 1989، قال فيدل: “إذا استيقظنا غدًا، أو في أي يوم من الأيام، على نبأ نشوب حرب أهلية كبيرة في الاتحاد السوفيتي، أو حتى استيقظنا على نبأ تفكيك الاتحاد السوفيتي، وهو ما نأمل ألا يحدث، حتى في هذه الظروف، الثورة الكوبية ستواصل النضال والمقاومة”.

خطاب كاسترو بمواصلة النضال والمقاومة يظل إحدى الثوابت التي لن تتنازل عنها كوبا، وبدت واضحة في كلمات قياداتها الشابة، ممثلة في جيل جديد يرأسه ميجيل دياز كانيل، السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي، رئيس الجمهورية.

تفسير الالتزام بالنضال والمقاومة، الذي سمعته من القيادات الحزبية الكوبية الشابة، دونته عقب لقاء ودي مع نائب مدير إدارة العلاقات الدولية بالحزب الشيوعي، خوان كارلوس، حيث لم تتوقف الولايات المتحدة، عن إعلان الرغبة، واتخاذ التدابير، بما فيها السياسية والعسكرية والاقتصادية، لإسقاط النظام الكوبي.

في يوم 3 فبراير عام 1962، وقع الرئيس الأمريكي الأسبق، جون كينيدي، أمرًا تنفيذيًا برقم 3447 بفرض الحصار الاقتصادي والتجاري والمالي على كوبا، ومنذ ذلك التوقيت، واصلت الإدارات الأمريكية المتتالية اتباع وتعميق السياسات الجائرة.

واشنطن لم ولن تقبل حقيقة أن نظامًا ثوريًا قد أصبح أمرًا واقعًا في هافانا، وأن كوبا، التي كانت خاضعة لهيمنتها المطلقة لنصف قرن، يمكن أن تفلت من يدها، بل وتصبح الثورة الكوبية شعلة لدعم التحرر والاستقلال في أمريكا اللاتينية وإفريقيا.

الولايات المتحدة باتت العدو الرئيسي للثورة الكوبية، ومارست كل أنواع التحريض ونصب المكائد، وتنظيم الحملات السياسية والإعلامية لإسقاطها، بما فيها الإنزال العسكري بخليج الخنازير في أبريل عام 1961، مما كاد يتسبب في حرب نووية.

طوال العقود الستة المنصرمة، صمدت كوبا، وتؤكد قياداتها المتتالية الالتزام بالنضال والمقاومة، للحفاظ على هويتها الحرة المستقلة، وتعزز هافانا اختيارات شعبها، حتى ولو جاء الثمن غاليًا، دفعته – وتدفعه- الأجيال من قوت يومها.

العالم لا يقف متفرجًا على المواقف العدائية الأمريكية ضد كوبا، بل بدا متضامنًا، ومطالبًا بالإنهاء الفوري للحصار الاقتصادي والتجاري والمالي، الذي تفرضه واشنطن ضد هافانا، بتصويت 185 دولة ضد اثنتين بالجمعية العامة للأمم المتحدة.

الحصار الأمريكي على كوبا، وتطبيق البند الثالث من قانون هيلمز- بيرتون، وإدراج اسمها، غير المبرر، بالقائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، لم يمنع هافانا من مواصلة دورها الرائد في دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.

هذه السنة، 2023، تتولى كوبا رئاسة مجموعة الـ 77 + الصين، وهي منظمة حكومية، تمثل نحو 80% من سكان العالم، وتعتبر أكبر تحالف للدول النامية، يستهدف تعزيز القدرات التفاوضية والدفاع عن المصالح الاقتصادية للمجموعة.

كغيرها من الدول، تعاني كوبا من الآثار الاقتصادية والمالية العالمية الكارثية، الناجمة عن جائحة كوفيد-19، والمترتبة على الحرب الروسية- الأوكرانية، غير أن مظاهر الحياة الاجتماعية لسكانها تتحسن، بفضل إجراءات تنفذها الدولة الكوبية لزيادة الإنتاج بالابتكار والعلم والتكنولوجيا الحيوية، وفتح آفاق الاستثمار والأعمال، في مجالات الزراعة والصحة، وزيادة الصادرات، وتشجيع السياحة.

kgaballa@ahram.org.eg

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.