المتابع عن قرب للشأن الياباني يمكنه -بسهولة- رصد أكثر من مؤشر إيجابي لتغير نسبي، في التفاعل الرسمي والأهلي ببلاد الشمس المشرقة، مع ما تشهده فلسطين، عمومًا، وقطاع غزة تحديدًا، من جرائم على أيدي العصابات الصهيونية.
حتى وقت قريب، توجهت العديد من الدعوات والمناشدات لليابان بأن تتخذ موقفًا أكثر موضوعية، وشفافية وعدلا، واتباع سياسة متوازنة تجاه ما يحدث في فلسطين، ومنها ما جاء على لسان سفير فلسطين بطوكيو، وليد صيام، مؤكدًا أنه لم يصدر أي بيان ياباني رسمي -للآن- يدين جرائم الإبادة الجماعية للفلسطينيين بغزة، بل تتوقف المناشدات عند حد المطالبة بتقليص حجم العمليات والإصابات!
في الوقت نفسه، وفي مقال كتبته المديرة السابقة لمكتب صحيفة “تشونيشي” اليابانية بالقاهرة، كومودو ميتسورو، ورد انتقاد للموقف الياباني جاء فيه “أن ما يؤذي المشاعر العربية هو موقف اليابان الذي يقال إنه تابع للولايات المتحدة”.
نوهت الكاتبة في تحليلها بالموقع الإخباري “نيبون دوت كوم” إلى ما أسمته بـ “التراجع الكبير للحضور الياباني في الشرق الأوسط”، وأن هناك الكثير من اليابانيين الذين يشعرون بالحزن، لاستمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وخروج العديد من المظاهرات في جميع أنحاء اليابان للمطالبة بوقف إطلاق النار.
ذكرت الكاتبة أن هناك شعورًا قويًا في منطقة الشرق الأوسط بالاحترام والإعجاب بالشركات والتكنولوجيا اليابانية، وما حققته اليابان من تنمية اقتصادية مميزة بعد الحرب العالمية الثانية، على الرغم من قصفها بالقنبلة الذرية، كل هذه المشاعر الإيجابية تجاه اليابان باتت محل انتقاد عبر وسائل التواصل الاجتماعي في الدول العربية والإسلامية، وظهرت شعارات مثل: لن نشتري منتجات يابانية مرة أخرى.. العار على اليابان.. لقد وافقت اليابان على قتل إخوتنا.. قاطعوا المنتجات اليابانية!
مؤشرات التغير الإيجابي النسبي في الموقف الياباني تجاه محنة الفلسطينيين بغزة ظهرت بشائرها في مقال نشره الأسبوع الماضي الموقع الإخباري نفسه، للكاتب إيتو يوشياكي، الذي عمل مراسلا سابقا لصحيفة “ماينيتشي” في كل من القاهرة وجنيف وواشنطن، وشغل منصب الرئيس لنادي الصحافة الوطني الياباني.
تساءل الكاتب: كيف ترى اليابان نهاية الحرب على غزة؟ ولماذا أصبح العالم يفتقر إلى ما أسماه بـ “دول الحياد” ودورها المحوري في إنهاء الصراعات؟ مؤكدًا أن وقوع سكان غزة من المدنيين الأبرياء ضحية للألة العسكرية الإسرائيلية الغاشمة يثير تعاطف الرأي العام العالمي، بالإضافة إلى شجب وتنديد حكومات العالم.
إيتو يوشياكي أشار إلى أنه لولا احتضان النرويج للمفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية، كبلد محايد، لما تمكن الطرفان من التوصل لاتفاق أوسلو، لكن اليوم، حتى لو جرى التوصل لوقف إطلاق النار في غزة، أين ستعقد أي مفاوضات سلام لاحقا بين الطرفين، وأضاف قائلا: “في ظل تزايد مظاهر الاستقطاب في العالم أخشى أن تكاليف خسارة الدول المحايدة، وغياب دورها عن الساحة السياسية العالمية، سوف يدفعها الشعب الفلسطيني في نهاية المطاف”.
أيضا، تساءلت المحامية اليابانية، المدير السابق للمنصة الدولية لحقوق الإنسان، كانو شيوري، تحت عنوان “الحرب على غزة والمحكمة الجنائية الدولية.. هل هي آخر فرصة لتكريس مبدأ العدالة وسيادة القانون الدوليين.. أم أننا سنواصل سقوط كامل لكل المعايير الدولية” موضحة ما الذي يجب أن تفعله اليابان، وهي ممول رئيسي وعضو بالمحكمة الجنائية الدولية لدعم وتوجيه أنشطتها؟ علما بأن رئيس المحكمة (بدءًا من شهر مارس الماضي) هي القاضية اليابانية، أكاني توموكو.
أشارت المحامية إلى ما أسمته غموض نهج الحكومة اليابانية، حتى الآن، تجاه الأحكام الأخيرة للمحكمة الجنائية الدولية، بإصدار مذكرة توقيف بحق قادة إسرائيل بسبب أفعالهم في حرب غزة، واكتفت طوكيو بتصريح وزيرة الخارجية، كاميكاوا يوكو، وجاء فيه أن الحكومة اليابانية ستمتنع عن إصدار أي حكم مسبق بشأن قرار المحكمة الجنائية الدولية، وأنها ستواصل متابعة التطورات، عن كثب وبقلق بالغ!
علقت المحامية كانو شيوري على تصريح الوزيرة كاميكاوا، قائلة: “ومع ذلك فإن نهج الانتظار والترقب-هذا- لن يفلح إلى الأبد، حيث تمادت القيادات الإسرائيلية في قتل المدنيين ورفض الدعوات الدولية لوقف إطلاق النار”.
ونوهت إلى ازدواجية المعايير الأمريكية؛ حيث انتقدت على الفور قرار المحكمة الجنائية عندما تعلق الأمر بقادة إسرائيل، مقارنة بترحيبها بقرار توقيف الرئيس بوتين، ودعت كانو اليابان أن تلعب دورا يتجاوز مجرد الوفاء بالتزاماتها كعضو في المحكمة الجنائية الدولية.
في السياق الإيجابي، نفسه، جاءت المقابلة الحصرية، التي أجرتها هيئة الإذاعة والتلفزيون اليابانية، NHK، مع مسئول ياباني يعمل رئيسًا لقسم الصحة بوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، أونروا، بغزة، سييتا أكيهيرو.
أشار السيد سييتا أكيهيرو إلى أن انهيار النظام العام في غزة أدى إلى تفاقم الوضع الإنساني للفلسطينيين في غزة، وأن سكان القطاع جرى إجبارهم –مرارًا- على النزوح، ويعيشون في خيام، في ظل ظروف غير صحية، وبالغة التدهور والسوء، في ظل استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية، داعيا لوقف فوري لإطلاق النار.
مجلس النواب الياباني كان قد تبنى قرارًا في شهر يونيو الماضي –بأغلبية الأصوات- يطالب بوقف فوري لإطلاق النار، داعيًا إلى تحسين وضع حقوق الإنسان في غزة، في ضوء سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين، بمن فيهم النساء والأطفال، وحث الحكومة للعمل -بجدية أكبر- مع الدول الأخرى لوقف إطلاق النار.
على صعيد آخر، صوتت اليابان لصالح مشروع قرار دولي أبطله “فيتو أمريكي”، يوصي بأن تصبح فلسطين دولة كاملة العضوية بالأمم المتحدة، ووصف المتحدث باسم الحكومة اليابانية، يوشيماسا هاياشي، الموقف الأمريكي بأنه مؤسف.
أختتم بالتنويه إلى عرض مسرحي يطوف جميع أنحاء اليابان لتسليط الضوء على “حياة غير مرئية للأسرى الفلسطينيين بالسجون الإسرائيلية، حيث يجري إجبارهم على تحمل أساليب الاستجواب والتعذيب بلا نهاية، للاعتراف زورًا بارتكاب جرائم.
مؤلفة المسرحية هي الكاتبة اليهودية-الإسرائيلية، إينات وايزمان، ومعظم الممثلين من اليابانيين، إضافة إلى عدد من المواطنين الفلسطينيين، وجرى “تكييف” العمل المسرحي لكي يتناسب مع أذواق واهتمامات المتلقين اليابانيين، ووفقًا لتقرير كتبته مراسلة NHK، هيزومي كاورو، صرحت الكاتبة وايزمان، التي كانت يومًا ما ممثلة مشهورة في إسرائيل، وتحولت إلى ارتداء قميص مكتوب عليه “فلسطين حرة” قائلة: “يجب أن أتحدث الآن باسم الفلسطينيين، إنني مؤمنة بأن الأمور ستتغير، وسأبذل كل ما في وسعي لكي يمكننا جميعًا العيش في مساواة كاملة”.
kgaballa@ahram.org.eg